فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأما {النَّصَارى}، فهو منصوب عطْفًا على لفظ اسمِ «إنَّ»، ولا حاجة إلى ادِّعاء كونه مرفوعًا على ما رفع به {الصابئُونَ}؛ لكلفةِ ذلك.
قوله تعالى: {مَنْ آمَنَ} يجوز في {مَنْ} وجهان:
أحدهما: أنها شرطيةٌ، وقوله: {فلا خَوْفٌ} إلى آخره جوابُ الشرط، وعلى هذا ف {آمَنَ} في محل جزمٍ بالشرط، و{فلا خَوْفٌ} في محلِّ جزمٍ بكونه جوابه، والفاءُ لازمةٌ.
والثاني: أن تكون موصولةً والخبر {فلا خوفٌ}، ودخلت الفاءُ لشبهِ المبتدأ بالشرطِ، ف {آمَنَ} على هذا لا محلَّ له؛ لوقوعه صلةً، و{فَلا خَوفٌ} محلُّه الرفعُ لوقوعه خبرًا، والفاءُ جائزةُ الدخولِ، لو كان في غير القرآن، وعلى هذين الوجهين، فمحلُّ {مَنْ} رفعٌ بالابتداء، ويجوز على كونها موصولةً: أن تكون في محلِّ نصب بدلًا من اسم «إنَّ» وما عُطِف عليه، أو تكون بدلًا من المعطوفِ فقط، وهذا على الخلافِ في {الَّذِينَ آمَنُوا}: هل المرادُ بهم المؤمنونَ حقيقةً، أو المؤمنونَ نِفَاقًا؟ وعلى كلِّ تقدير من التقادير المتقدِّمة، فالعائدُ من هذه الجملة على {مَنْ} محذوفٌ، تقديرُه: {مَنْ آمن مِنْهُمْ}؛ كما صَرَّح به في موضعٍ آخر، وتقدَّم إعرابُ باقي الجُمْلَةِ فيما مَضَى. اهـ.

.التفسير الإشاري:

قال نظام الدين النيسابوري:
التأويل: شر الفريقين من جعله الله مستعدًا لقبول فيض القهر من اللعن والغضب، وجعل صفة القردية والخنزيرية أعني الحيلة والحرص والشهوة من بعض خصائصهم.
{أولئك شر مكانًا} من القردة والخنازير لأن القردة والخنازير لا استعداد لهم وهؤلاء قد أبطلوا استعدادهم الفطري ومثله: {أولئك كالأنعام بل هم أضل} [الأعراف: 179] ولهذا دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به. الربانيون مشايخ الطريقة والأحبار علماء الشريعة. {غلت أيديهم} كانت أيديهم من إصابة الخير مغلولة ومشامهم عن تنسم روائح الصدق مزكومة فلهذا قالوا: {يد الله مغلولة} وكل إناء يرشح بما فيه. ولكن الذي أدركته العناية الأزلية وسلبت عنه صفات الظلومية والجهولية صلى الله عليه وسلم قال: «يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار ينفق كيف يشاء» بيدي اللطف والقهر على المؤمنين من الهداية والإحسان، وعلى الكافرين من العواية والخذلان. {وألقينا بينهم العداوة} فلا يوجد أحد إلاّ وبينه وبين صاحبه بغض إلى أن يتوارثوا بطنًا بعد بطن. ولو أن أهل العلوم الظاهرة آمنوا بالعلوم الباطنة واتقوا الإنكار والاعتراض، ولو أنهم عملوا بمتفقات الكتب المنزلة ومستحسناتها {لأكلوا من فوقهم} ورزقوا من الواردات الروحانية {ومن تحت أرجلهم} إلى أعلى مقاماتهم. من العلماء الظاهريين أمة مقتصدة إن لم تكن سابقة بالخيرات، والمقتصد هو العالم المتقي والمريد الصادق دون السابق وهو الواصل الكامل العالم الرباني {بلغ ما أنزل إليك} يندرج تحته الوحي والإلهامات والمنامات والوقائع والواردات والمشاهدات والكشوف والأنوار والأسرار والأخلاق والمواهب والحقائق ومعاني النبوّة والرسالة. فالرسول إن لم يبلغ بعض هذه الحقائق إلى العباد لم يمكنهم الوصول إلى الله فلا يحصل مقصود ما أرسل به فلم يبلغ رسالته إلاّ أن للتبليغ مراتب كما أنزل إليه. فتبليغ بالعبارة وتبليغ بالإشارة وتبليغ بالتأديب وتبليغ بالتزكية وتبليغ بالتحلية وتبليغ بالهمة وتبليغ بجذبات الولاية وتبيليغ بقوة النبوة والرسالة وتبليغ بالشفاعة. وللخلق أيضًا مراتب في قبول الدعوة بحسب الاستعدادات المختلفة {أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها} [الرعد: 17] {والله يعصمك} بأوصاف لاهوتيته عن أوصاف ناسوتيتك لتتصرف في الخلق بقوة اللاهوتية فتوصلهم إلى الله ولا يتصرفون فيك فيقطعوك عن الله. يا أرباب العلوم الظاهرة لستم على شيء من حقيقة الدين حتى تزينوا ظاهركم وباطنكم بالأعمال والأحوال الواردة في الكتب الإلهية وذلك بمقدمتين وأربع نتائج. فالمقدمتان: الجذبة الإلهية ونتيجتها الإعراض عن الدنيا والتوجه إلى المولى، ثم تربية الشيخ ونتيجتها تزكية النفس عن الأخلاق الذميمة وتحلية القلب بالأخلاق الفاضلة والله حسبي ونعم الوكيل. اهـ.

.تفسير الآية رقم (70):

قوله تعالى: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كانت هذه البشارة- الصادقة من العزيز العليم الذي أهل الكتاب أعرف الناس به لمن آمن كائنًا من كان- موجبة للدخول في الإيمان والتعجب ممن لم يسارع إليه، وكان أكثر أهل الكتاب إنما يسارعون في الكفر، كان الحال مقتضيًا لتذكر ما مضى من قوله تعالى: {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبًا} [المائدة: 12] وزيادة العجب منهم مع ذلك، فأعاد سبحانه الإخبار به مؤكدًا له تحقيقًا لأمره وتفخيمًا لشأنه، وساقه على وجه يرد دعوى البنوى والمحبة، ملتفتًا مع التذكير بأول قصصهم في هذه السورة إلى أول السورة {أوفوا بالعقود} [المائدة: 1] وعبر في موضع الجلالة بنون العظمة، وجعل بدل النقباء الرسل فقال مستأنفًا: {لقد أخذنا} أي على ما لنا من العظمة {ميثاق بني إسرائيل} أي على الإيمان بالله ثم بمن يأتي بالمعجز مصدقًا لما عنده بحيث يقوم الدليل على أنه من رسل الله الذين تقدم أخذ العهد عليهم بالإيمان بهم، ودل على عظمة الرسل بقوله في مظهر العظمة: {وأرسلنا إليهم رسلًا} أي لم نكتف بهذا العهد، بل لم نخلهم من بعد موسى من الرسل الذين يرونهم الآيات ويجددون لهم أوامر الرب إلى زمن عيسى عليه السلام، روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه- البخاري في بني إسرائيل ومسلم في المغازي- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم» انتهى.
ومع ذلك فلم يخل لهم زمان طويل من الكفر لا في زمن موسى ولا في زمن من بعده من الأنبياء عليهم السلام، حتى قتلوا كثيرًا من الرسل وهو معنى قوله- جوابًا لمن كأنه قال: ما فعلوا بالرسل: {كلما جاءهم رسول} أي من أولئك الرسل أي رسول كان {بما لا تهوى أنفسهم} أي بشيء لا تحبه نفوسهم محبة تتساقط بها إليه، خالفوه، فكأنه قيل: أي مخالفة؟ فقيل: {فريقًا} أي من الرسل {كذبوا} أي كذبهم بنو إسرائيل من غير قتل، ودل على شدة بشاعة القتل وعظيم شناعته بالتعبير بالمضارع تصويرًا للحال الماضية وتنبيهًا على أن هذا ديدنهم وهو أشد من التكذيب فقال: {وفريقًا يقتلون} أي مع التكذيب وليدل على ما وقع منهم في سم النبي صلى الله عليه وسلم، وقدم المفعول للدلالة على انحصار أمرهم في حال التكذيب والقتل، فلا حظ لهم في تصديق مخالف لأهويتهم. اهـ.

.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{أن لا تكون} بالرفع: أبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم وحمزة وعلي وخلف غير سهل وحفص وأبي بكر وحماد. الباقون بالنصب.

.الوقوف:

{رسلًا} ط {أنفسهم} لا لأن عامل {كلما} قوله: {كذبوا} {يقتلون} o {كثير منهم} ط {بما يعملون} o {ابن مريم} ط {وربكم} ط {النار} ط {من أنصار} o {ثلاثة} لا لئلا يوهم أن ما بعده من قول الكفار {واحد} ط {أليم} o {ويستغفرونه} ط والوصل أيضًا حسن بناء على أن الواو للحال أي هلا يستغفرونه وهو غفور {رحيم} o {رسول} ج لاحتمال ما بعده الصفة والاستئناف {الرسل} ط لأن الواو للاستنئاف لا للعطل {صدّيقة} ط لأن ما بعده لا يصلح للصفة لأن الضمير في {كانا} مثنى {الطعام} ط {يؤفكون} o {ولا نفعًا} ط والوصل يحسن على أن الواو للحال أي يعبدون ما لا ينفع ولا يضر والحال أن الله يسمع دعاء المضطر ويعلم رجاء المعتر {العليم} o {السبيل} o {ابن مريم} ط {يعتدون} o {فعلوه} ط {يفعلون} o {كفروا} ط {خالدون} o {فاسقون} o {أشركوا} ج لطول الكلام والفصل بين الوصفين المتضادين {نصارى} ط {لا يستكبرون} o {من الحق} ج لاحتمال ما يتلوه الحال والاستئناف {الشاهدين} o {من الحق} لا لأن الواو بعده للحال. {الصالحين} o {خالدين فيها} ط {المحسنين} o {الجحيم} o. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أن المقصود بيان عتو بني إسرائيل وشدة تمردهم عن الوفاء بعهد الله، وهو متعلق بما افتتح الله به السورة، وهو قوله: {أَوْفُواْ بالعقود} [المائدة: 1] فقال: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إسراءيل} يعني خلقنا الدلائل وخلقنا العقل الهادي إلى كيفية الاستدلال، وأرسلنا إليهم رسلًا بتعريف الشرائع والأحكام.
وقوله: {كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنفُسُهُمْ} جملة شرطية وقعت صفة لقوله: {رُسُلًا} والراجع محذوف، والتقدير: كلما جاءهم رسول منهم بما لا تهوى أنفسهم، أي بما يخالف أهواءهم وما يضاد شهواتهم من مشاق التكليف. اهـ.

.قال السمرقندي:

قوله تعالى: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إسراءيل} يعني: عهدهم في التوراة، {وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنفُسُهُمْ} يعني: بما لا يوافق هواهم، {فَرِيقًا كَذَّبُواْ} مثال عيسى ومن قبله، {وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} مثل يحيى وزكريا، وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام، فالله تعالى أمر النبي بتبليغ الرسالة، وأمره بأن لا يحزن عليهم إن لم يؤمنوا، لأنهم من أهل السوء الذين فعلوا هذه الأفعال. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله عز وجل: {لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل} الآية، استئناف خبر بفعل أوائلهم وما نقضوا من العهود واجترحوا من الجرائم، أي إن العصا من العصية، وهؤلاء يا محمد من أولئك فليس قبيح فعلهم ببدع، و{كلما} ظرف والعالم فيه كذبوا ويقتلون.. وقوله تعالى: {بما لا تهوى أنفسهم} يقتضي أن هواهم كان غير الحق وهو ظاهر هوى النفس متى أطلق، فمتى قيد بالخير ساغ ذلك، ومنه قول عمر رضي الله عنه في قصة أسارى بدر: فهوى رسول الله ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت أنا، وقوله تعالى: {فريقًا كذبوا} معناه كذبوه فقط، يريد الفريق من الرسل ولم يقتلوه، وفريقًا من الرسل كذبوه وقتلوه، فاكتفى بذكر القتل إذ هو يستغرق التكذيب. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا}.
قد تقدّم في (البقرة) معنى الميثاق وهو ألا يعبدوا إلاَّ الله، وما يتصل به.
والمعنى في هذه الآية لا تأس على القوم الكافرين فإنا قد أعذرنا إليهم، وأرسلنا الرسل فنقضوا العهود.
وكل هذا يرجع إلى ما افتتحت به السورة وهو قوله: {أَوْفُواْ بالعقود}.
{كُلَّمَا جَاءَهُمْ} أي اليهود {رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُهُمْ} لا يوافق هواهم {فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} أي كذبوا فريقًا وقتلوا فريقًا؛ فمن كذبوه عيسى ومن مثله من الأنبياء، وقتلوا زكريا ويحيى وغيرهما من الأنبياء.
وإنما قال: {يقتلون} لمراعاة رأس الآية.
وقيل: أراد فريقًا كذبوا، وفريقًا قتلوا، وفريقًا يكذبون وفريقًا يقتلون، فهذا دأبهم وعادتهم فاختصر.
وقيل فريقًا كذبوا لم يقتلوهم وفريقًا قتلوهم فكذبوا.
و{يقتلون} نعت لفريق. والله أعلم. اهـ.